أقلام حرة

لجان الحقيقة والمصالحة…الحالة الأردنية الفلسطينية

العميد المتقاعد زهدي جانبك

انتشر في الآونة الأخيرة التطبيق الحرفي للمثل القديم الجديد (ما هي رمانة، هي قلوب مليانة)... فما يكاد احد الفلسطينيين او الأردنيين من أصل فلسطيني ينطق كلمة الا ويتم صلبه فورا بلا رحمة…والعكس صحيح فما ان يخرج أحدنا بموال الا ويتم صلبه وتقطيعه من خلاف… ليس لان ما قاله كلا الطرفين حق او باطل… ولكن بسبب من هو الذي قال وما اصله. القلوب مليانة بطريقة غير مسبوقة ولا تنبئ بخير.

عام 2001 تقدمت بطلب وظيفة محقق في المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا ورواندا… وبعد عام من عملي، تم فصل الموضوعين عن بعضهما وتعيين مدعي عام لرواندا، ومدعي عام آخر ليوغوسلافيا… ومن ضمن التغييرات، تسلمت قيادة فريق تحقيق للعمل في رواندا والدول المحيطة بها وكانت مهمة الفريق التحقيق في أربع قضايا:

– دور الإعلام في الابادة الجماعية. – دور بيت الرئيس الاكازو في الابادة الجماعية.

– دور رجل الأعمال كابوجا في الابادة الجماعية.

– دور احد رؤساء المحافظات في الابادة الجماعية. “الاكازو”، كلمة روانداية ترمز الى بيت الرئيس، ليس البناء المادي ، ولكن البيت المعنوي المشتمل على كافة الروابط التي تجعل لشخص تأثيرا كبيرا على الناس بسبب هذه الروابط مع الرئيس سواء كانت رابطة الدم او النسب او الصداقة القريبة او الزمالة المتميزة… هؤلاء الأشخاص كانوا : الاكازو… وكان دورهم غامضا في المذبحة ومن الصعب إثباته، ولكنه كان مفصليا…. الشجرة التي قمنا بتصميمها لإثبات هذه الروابط، وأثرها على المذبحة كانت عملا قانونيا مذهلا…. اما اثناء التحقيق في موضوع الإعلام، فقد هالني الكم الهائل من الأشرطة الصوتية، والفلمية والورقية التي اضطررنا لمراجعتها، وكان من سبقنا بهذا الملف قد وضع أسس واليات تفريغ محتوى الأشرطة على الورق، وهي عملية هائلة عمل في قيادتها أيضا احد الزملاء الأردنيين.

تسجيلات من داخل رواندا، ومن بلجيكا، ومن أمريكا وفرنسا، وغيرها، للمحتوى الإعلامي لكافة وسائل الإعلام التي عملت في رواندا طيلة فترة ما قبل الابادة. كان هناك تحريض هائل من إحدى الجهتين ضد الأخرى… استمر لسنوات… وتم تكثيفه في الشهور الأخيرة لما قبل واثناء المذبحة… الرسائل التي تم بثها جعلت المواطن الرواندي عند ساعة الصفر جاهزا لذبح زوجته، (او زوجها)، الأبناء، الجيران، الأنسباء… الخ، وسقطت كل الروابط الإنسانية امام كثافة الرسائل الاعلامية التي صورت لجهة ان سحق اي فرد من الجهة الأخرى لا يختلف عن سحق صرصور بسن الحذاء … لم يعد للقتل معنى في ضمير القاتل، بل ان بشاعة وهول الحدث ، جعلت الضحايا يتمنون على الجناة قتلهم بسرعة… تأثير هائل وعجيب للمادة الاعلامية، وأسلوب طرحها جعل الشعب الرواندي يقتل ما بين نصف مليون الى مليون شخص خلال تسعين يوما… كان مطلوبا منا توضيح الأثر المباشر للإعلام على شخص بعينه، لارتكاب جريمة محددة ليكون هذا دليلا أمام المحكمة الجنائية الدولية.

كان مطلوبا منا، ربط شراء أجهزة الراديو الصغيرة وتوزيعها بشكل مجاني احيانا كثيرة قبل شهووور من المذبحة، بمخطط اعلامي مبرمج يهدف إلى تعبئة (قلوب) الجمهور من طرف ضد الطرف الآخر (استنادا الى تاريخ العلاقة التاريخية بينهما) لايقاع المذبحة… بل قمنا بالتحقيق في دور من يشتري البطاريات ويوردها الى السوق، لإثبات انه مشترك بالتخطيط والتنفيذ لارتكاب المذبحة. بدأت المحكمة عملها عام 1994, واصدر المدعي العام اول قرار اتهام عام 1996 وصدر اول حكم من هذه المحكمة عام 1998 ، وكانت المرة الأولى في تاريخ العالم التي يصدر فيها حكم لادانة شخص بتهمة الابادة الجماعية.

كانت البداية حماسية،… وكان تحقيق حكم بتهمة الابادة الجماعية لأول مرة في العالم، نصرا لكل العاملين بالقانون الدولي… وتبعه محاكمة رئيس وزراء رواندا وهي أول مرة يتم فيها محاكمة مسؤول أفريقي أمام القضاء… هذه الانتصارات أعطت المحكمة زخما لمجموعة قضايا خلال السنتين التاليتين… لكن جميع المتهمين والمحكومين كانوا من جهة واحدة (قبيلة الهوتو)… وبدأ التململ من المجتمع الدولي… هل هذه المحاكمات ستتبع نهج محاكمات نورمبرغ وتركز على الطرف المهزوم؟؟؟ في يوغوسلافيا وفي رواندا ؟… كانت المدعي العام للمحكمة اسمها كارلا دو بونتي… من أشرس المدعين العامين الذين عملت معهم بحياتي… بول كاجامي (قائد الثوار التوتسي) كان (وما زال رئيسا لرواندا، وكان هو رأس حربة أمريكا والانجلوفونية لتحقيق موطيء قدم لها في أفريقيا مقابل الفرانكوفونية الفرنسية… ولهذا، كان مشتهرا بيننا ان كاجامي والتوتسي خطوط حمراء محمية من امريكا، والهوتو محميون من فرنسا… تحت الضغط الفرنسي والمجتمع الدولي … تم فتح مجموعة من القضايا ضد أعضاء من التوتسي مسؤولين عاملين مع كاجامي رئيس الجمهورية… بقي التحقيق سريا الى ان تم جمع ما يكفي من الادلة… توجهت كارلا دو بونتي الى كاجامي وعرضت عليه احد الملفات دون اسم حتى لا يعطل عمل المحكمة اذا تم تحريك قضية ضده… رفض… قالت له بالحرف: اريد ان ارمي عظمة للمجتمع الدولي حتى يتوقف عن اتهامنا اننا نحاكم المهزوم فقط… أصر على الرفض… مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، يرتبط مباشرة بمجلس الأمن الدولي ، ويعمل بموجب الفصل السابع… يعني قرصتها والقبر… تقرير منها كافي لبدء تحريك مجلس الأمن ضد اي دولة غير متعاونة…. ف ، لجأت كارلا الى مجلس الأمن، اي فيتو هنا قاتل لان الموضوع يتعلق بقضايا معروضة أمام المحكمة من قبل فريق دولي… بدل الفيتو، قررت الولايات المتحدة الأمريكية ان المحكمة مقصرة بعملها، وأن المدعي العام لا يستطيع التعامل مع قضايا يوغوسلافيا ورواندا بنفس الوقت …. وعليه يجب إعادة تنظيم المحكمة… فتقرر فصل قضايا الدولتين عن بعضهما… تعيين كارلا مدعي عام لمحكمة يوغوسلافيا… وتعيين حسن بوبكر جالو مدعي عام محكمة رواندا… على أن تنهي المحكمة تحقيقاتها خلال 3 سنوات ، وتنهي قضاياها مع نهاية عام 2008…. وبهذا تمكنت الولايات المتحدة من وقف التحقيقات مع حلفائها…دون أن تصرح بذلك تصريحا.

المهم… الرئيس الرواندي بول كاجامي ، زهق هالسلافة… وبدأ عام 2001 بتطبيق شيء مختلف تماما… اسمه الجشاشا (gacaca)…وهو مبدأ تقليدي عشائري لديهم يصف المكان الذي يجتمع فيه كبار العشيرة للتداول في مصلحتها العامة… وهي المحاكم الشعبية… وهو نظام محاكم يقع ضمن منظومة العدالة الانتقالية… بهدف تسريع التشافي الاجتماعي من آثار الابادة الجماعية… واعادة بناء المجتمع عن طريق وضع العدالة بيد المجتمع… واجه هذا الأسلوب انتقادات منها انه يعرض حياة الناجين من المذبحة الى الخطر عندما يدلوا بشهاداتهم أمام هذه المحاكم ، وأن هذه المحاكم تتبنى وجهة النظر الحكومية التي تعترف بالتوتسي كضحايا والهوتو جناة فقط.

من عام 2003 ولغاية 2009 تعاملت مع هذه المحاكم بسبب وظيفتي… كانوا يشكلوا احد مصادر المعلومات المهمة لفريقي… وكانت لديهم سلطات هائلة لطلب شهادة كائن من كان وطلب اي جهة لتقديم اي معلومة تهم محاكم الجشاشا. طبعا، هذا ليس اختراعا روانديا… فقد سبقها العديد من الدول لتشكيل لجان الحقيقة والعدالة والمصالحة…. اكثر من 19 دولة طبقت هذه العدالة الانتقالية… منها ولاية كارولاينا في أمريكا ، وكندا، وهيئة الإنصاف والمصالحة المغربية، السلفادور والكونغو وكينيا ولجنة التحقيق في تشاد، ولجنة الحقيقة في الفلبين، ولجنة الحقيقة والمصالحة في يوغسلافيا، وبوليفيا، واوغندا ، والارجنتين، وغواتيمالا، ونيبال، وأستراليا، والمانيا، وسيراليون، والبوسنة … وغيرها ، وكان هدفها الرئيسي “الوصول للمصالحة الوطنية بين الضحايا والجناة”، لأن كشف الحقيقة يضمد الجراح، لأن ترك مثل هذه الفجوة في الذاكرة يمكن أن تزيد مآســي الضحايا بنكران تجاربهم المروعة… “التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل”، و”الظلم يسلب كلاً من الظالم والمظلوم حريته”…و”الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام”…من اقوال نيلسون مانديلا.

“لجنة الحقيقة و المصالحة” (TRC) في جنوب أفريقيا كانت تجربة متقدمة بعد 40 عاما من نظام الابارتهيد. وقد لعبت تلك التجربة دورًا هامًّا في تطوير مجال العدالة الانتقالية، وفقا لـ”المركز الدولي للعدالة الانتقالية” (ICTJ). وقد تشكلت اللجنة عام 1995 وتم منحها صلاحيات واسعة، وشملت الصلاحيات التحقيق والاستدعاء، والتحقيق في أنماط انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها الموظفون الرسميون وأعضاء المنظمات المعارضة خلال فترة 34 عاماً، وإصدار توصيات، ومن ضمنها دفع تعويضات إلى ضحايا الانتهاكات، والصلاحية شبه القضائية في منح العفو…. وارست هذه اللجان مباديء منها ان المصالحة لا تعني طمس الحقيقة. التجربة الجنوب إفريقية والرواندية ، وغيرها من هذه الدول المذكورة نجحت؛ لأنها لم تتهرب من ماضيها بل واجهته، مستخلصة منه الدروس والعبر في الممارسة السياسية، وفي الخطاب السياسي الرسمي؛ فصارت أكثر لجان الحقيقة والمصالحة شهرة؛ لأنها حققت إلى حد كبير أهدافها في خلق مجتمع قادر على تجاوز مرارات الماضي الدموي، والتعافي من آثارها.

بعد الاحداث المؤلمة يفضل بعض الناس العاديين نهج «الصفح والنسيان» دون مواجهة الحقيقة معتقدين ان المواجهة ضررها اكبر من نفعها، لكن التجارب اثبتت العكس، واثبتت ان الصفح المبني على معرفة الحقيقة والعدالة يساعد اكثر في تضميد الجراح. والاردن، ليس شاذا عن الدول والإمم الأخرى في إمكانية وقوع الفتن فيه… فمنذ التأسيس واجهتنا مشكلة الهوية، وعد بلفور : هل يشمل الشرق ام الغرب فقط،… المندوب السامي البريطاني لفلسطين وشرق الأردن، لماذا؟ المعونة الشرقية لفلسطين لمقاومة النفوذ اليهودي… عز الدين القسام… ثورة 36 ومحاولة بريطانيا ضم الغرب الى الشرق لاحكام السيطرة… الكتاب الأبيض والحرب العالمية الثانية… قرار التقسيم وما تلاه من حرب: من المسؤول عن الخسارة، ولماذا؟ قرار الوحدة 1950 هل هي وحدة ؟ام احتلال؟ ام إلغاء للدولة الفلسطينية المنصوص عليها بقرار التقسيم ؟ الجنسية الاردنية للضفتين، هل كانت اجبارا، ام مطلبا؟ المواطنين الأردنيين الغربيين بعد الضم، اليسوا مواطنين يتنقلون أينما شاؤوا في الوطن “الواحد”؟…هل كان هناك قيود على حرية التنقل والتملك بين 1950 و 1967 ؟ اغتيال الملك الشهيد؟ اغتيال الشهيد هزاع المجالي؟ من ولماذا؟ 1967 ما لنا وما علينا؟ 1968 من المنتصر في الكرامة؟ 1970 لماذا ؟ 1974 الرباط من؟ ولماذا؟… 1987 مبادرة بيلين – بيريز، لمصلحة من؟ 1988 فك الارتباط، طلب ام فرض؟ ما ذنبي (انا) اذا انتقلت من جهة الى جهة في وطني ثم بقرار لم يعد وطني، لا انا اخترت الأولى ولا استشاروني في الثانية؟ انتخابات 1989، الاخوان المسلمين فلسطينيين ام أردنيين؟ 1990 هل هي نخوة، ام فرضت علينا فرضا؟ لجوء فلسطيني الكويت، هل هو رجوع الى الوطن؟ ام هو لجوء من لجوء؟… وغيرها… اذا بقينا نتحدث حول هذه المواضيع خلف أبواب مغلقة،…ونتحدث عن بعضنا وليس مع بعضنا… سيبقى وطني مجروحا… وسيخرج بعد قرن من عمر الدولة من يقول انتظروا ولا تتعجلوا قانون الانتخاب قبل أن نحدد الهوية… بعد قرن وما زلنا نتحدث في الهوية الوطنية….!!! نتيجة تعليق إجراءاتنا الاقتصادية على حل القضية الفلسطينية قامت اسرائيل بسرقة البحر الميت سياحة، وتصنيعاً.

نتيجة تعليق إجراءاتنا الزراعية على حل القضية الفلسطينية قامت اسرائيل بسرقة الاغوار مياها، وانتاجا ، فتحول الغرب الى جنة وبقي الشرق صحراء.

نتيجة تعليق حياتنا السياسية على حل القضية الفلسطينية أصبحت اسرائيل الديمقراطية الأولى والوحيدة في المنطقة. نتيجة تعليق حياتنا الاجتماعية على حل القضية الفلسطينية أصبح عرب ال 48 اكثر قربا لإسرائيل من قربهم للعرب. وأصبح عرب بئر السبع مقاتلين بالجيش الاسرائيلي.

ما يقارب الثلاث عقود من التفاوض… ولا حل ، ولن يأتي حل قريب… فهل نبقى معلقين بين الأرض والسماء؟؟؟ لا بد من لجنة حقيقة وعدالة ومصالحة… لجنة شعبية اردنية فلسطينية ذات صلاحيات واسعة تعمل على كشف كل الحقائق التي تشكل موضوع همس لدى الطرفين، وتضع توصياتها المبنية على أسس المساواة و العدالة وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي…. حتى نتقدم الى مئوية جديدة على أسس قوية ثابتة. ان لم نفعل يكن فسادا كبيرا في الأرض….. والله المستعان

زر الذهاب إلى الأعلى